( العمل الفقهي عند الإباضية ) بحث للشيخ ناصر السابعي
--------------------------------------------------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذا بحث قيم للشيخ الفاضل ناصر بن سليمان السابعي ، تحت عنوان ( العمل الفقهي عند الإباضية )
مقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورته الحادية عشرة بدولة البحرين
25- 30 من رجب 1419هـ / 14- 19 من نوفمبر 1998م
وفي هذا البحث حاول الشيخ دراسة الجانب التطبيقي من الفقه الإسلامي في المذهب الإباضي ، وحاول بيان الجوانب المتعلقة بموضوع العمل الفقهي ، وقد قسمه إلى ثلاثة مباحث ، في المبحث الأول تناول تاريخ العمل الفقهي عند الإباضية ، ويشمل أمثلة مما جرى به العمل في فترات التاريخ الإباضي بجناحيه المشرقي والمغربي ، وأما المبحث الثاني فإنه يشمل خصائص العمل الفقهي وضوابطه ، والمبحث الثالث خصصه لبيان سبل الاستفادة من العمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة .
،، يتبع ،،
__________________
المقدمـــــة:
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمده تعالى وأستعينه وأستهديه وأستغفره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبدالله ورسوله ، هادي الأمم من الظلمات إلى النور ، وعلى آله وصحابته ومن سار على الصراط المستقيم.
أما بعد ،،،
فلا تخفى أهمية دراسة العلوم الشرعية في سبيل إحياء البشرية وبث روح الحياة في افرادها.
ومن اجلّ هذه العلوم وأنفعها في تقويم السلوك البشري علم الفقه الذي هو ثمرة لجهود مضنية بذلها علماؤنا وأسلافنا العظماء طيلة القرون السالفة.
وفي هذا البحث المختصر دراسة للجانب التطبيقي من الفقه الإسلامي في ضوء المذهب الإباضي ، ومحاولة لبيان الجوانب المتعلقة بموضوع العمل الفقهي المتمثلة في المباحث التالية:
المبحث الأول: تاريخ العمل الفقهي ، ويشمل أمثلة مما جرى به العمل في فترات التاريخ الإباضي بجناحيه المشرقي والمغربي.
المبحث الثاني: يشمل خصائص العمل الفقهي وضوابطه
المبحث الثالث: سبل الاستفادة من العمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة
والله ولي التوفيق وهو الهادي الى سواء السبيل
،، يتبع ،،
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
المبحث الأول : تاريخ العمل الفقهي عند الإباضية
تاريخ العمل الفقهي:
نريد بالعمل الفقهي ما جرى عليه العمل في الفتوى عند علماء مذهب معين أو بلد معين في مسألة ما أو مسائل ، سواء كانت تلك الفتوى مصدر ذلك العمل أو بنيت الفتوى على مصلحة بقائه أو عدم مصلحة إلغائه.
وخير مثال على ذلك ما عرف عند المالكية بعمل أهل المدينة ، إذ نقل عن الإمام مالك بن أنس القول بأنه حجة على غيرهم (1).
وبصرف النظر عن مدى صحة هذه الرؤية ، فإن مفادها إقرار هذا النظام قديما في استمداد عدد من الأحكام الشرعية ، وذلك فيما ورد عن الإمام مالك من نحول قوله:
" الأمر عندنا .... " (2) وقوله: " ... وذلك الأمر عندنا " (3).
وقد كان للعمل الفقهي عند الإباضية حظ كبير من العناية منذ وقت مبكر ، ربما في فترة متقدمة على الإمام مالك ، وهذا جلي فيما وجد من نصوص علماء الإباضية الأوائل من اعتبار العمل الفقهي وما جرى مجراه أحد الأسس التي تتحكم في الفتوى.
من ذلك قول الإمام أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة (ت 145هـ) خليفة الإمام أبي الشعثاء جابر بن زيد الأزدي (ت 93هـ) في قيادة الحركة الإباضية في رسالته إلى الإمام أبي الخطاب عبدالأعلى ابن السمح المعافري الذي بويع عام 140هـ واستشهد سنة 144هـ:
" .... وأما ما ذكرتم من أطفال في حجر المسلم وهو خليفتهم أو غير خليفة أترى له أن يزكي عنهم ؟ ، فأصحابنا يأمرون أن يزكى عنهم وجابر بن زيد وجميع فقهائنا على ذلك " (4)
---------
(1) الموسوعة الفقهية ، ج30 ، ص333.
(2) الموطأ ، ص25.
(3) المصدر السابق ، ص50.
(4) رسالة أبي عبيدة في الزكاة ، ص24.
،، يتبع ،،
__________________
وقوله فيما رواه عنه تلميذه الإمام الربيع بن حبيب ( ت بين 175 و 180ه هـ ) بعد رواية حديث المنديل الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يمسح به بعد الوضوء : " المعمول به عندنا ألا يمسح أعضاءه بعد الوضوء ، وهو استحباب من أهل العلم وترغيب منهم في نيل الثواب ما دام الماء على أعضائه " (1) .
ومن نصوص علماء الإباضية القدماء في ذلك قول أبي غانم بشر بن غانم الخرساني ( ت حوالي سنة 220هـ ) : " سألت الربيع : أيسجد الرجل ويداه في ثوبه ولا يخرجها ؟ قال : ليُفضِ بيده إلى الأرض أحب إليَّ ، قال أبو المؤرج وعبد الله بن عبد العزيز : قد جاء في ذلك أثر من الفقهاء ، وقد رأينا الأخبار من أصحابنا يفعلون ذلك ويروونه عن فقهائهم ، فلا بأس بذلك " (2) .
المشرق الإباضي :
تمضي المؤلفات الإباضية المشرقية في ذكر الأمور العملية الفقهية التي جرى العمل بها عند علماء المذهب حتى يأتي دور الإمام أبي محمد عبد الله بن محمد بن بركة البهلوي العماني ( ت 362 هـ ) الذي ألف عددا من الكتب من بينها " الجامع " و" التعارف " .
أما " الجامع " فقد ذكر فيه عددا من الأمور التي تدخل ضمن نطاق العمل الفقهي كقوله في المرأة يمتد بها الدم فيتعدى مدتها المعتادة ثم تنتظر يوما أو يومين ثم تكون في حكم المستحاضة إن استمر بها الدم : " والذي عليه العمل من أصحابنا إيجاب بدل اليوم واليومين اللذين تركت فيهما الصلاة إلا أن ينقطع الدم فلا يوجبون عليها إعادتهما " (3) ، وقوله : " والطلاق يقع عند أكثر أصحابنا وعليه العمل منهم اليوم بالإفصاح به والكناية عنه أيضا " (4) .
وأما كتاب " التعارف " فقد كان قفزة جديدة في مجال العمل الفقهي ، إذ برزت فيه العناية بالعرف والعادة الجارية ، حيث صار سياجا يضبط جملة من المسائل الفقهية لا سيما ما كانت مجالاتها
---------
(1) الجامع الصحيح حديث رقم 95 .
(2) المدونة الصغرى جـ1 ص68 .
(3) جامع ابن بركة جـ2 ص213 .
(4) المصدر السابق جـ2 ص167 .
،، يتبع ،،
__________________
وقد أصبح كتاب التعارف مادة جيدة –في بابه- لعدد من المؤلفات التالية ، مثل كتاب " المصنف " (1) للشيخ أحمد بن عبدالله الكندي (ت 557هـ) ، وكتاب " منهاج الطالبين وبلاغ الراغبين" (2) للشيخ خميس بن سعيد الشقصي ( من علماء القرن الحادي عشر الهجري ) ، وكتاب "جواهر الآثار" (3) للشيخ محمد بن عبدالله بن عبيدان ( عاش في أواخر القرن الحادي عشر وأوائل القرن الثاني عشر الهجري).
--------
(1) المصنف ج18 ، ص28.
(2) منهج الطالبين: ج13 ، ص 141.
(3) جواهر الآثار: ج13 ، ص 258.
__________________
هذا ، وما لبث أن جاء أبو الحسن علي بن محمد البسيوي (توفي في الربيع الأخير من القرن الرابع الهجري) تلميذ ابن بركة فألف كتابه المسمى بـ "مختصر البسيوي" الذي كان طرحا جديدا للفقه بشتى أبوابه ، إذ كان غاية في الاختصار الذي هو بمنزلة القواعد المبسطة ، ونحوه كتاب " مختصر الخصال " لأبي إسحاق إبراهيم بن قيس الحضرمي (توفي في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري) الذي كان مثالا فريدا في تأليفه وحسن عرضه ، غير أنه رغم ما فيه من هذه الميزة على مختصر البسيوي –وربما لبعد مؤلفه عن عمان- فإن الأخير صار المرجع في الفتوى في المشرق الإباضي لقرون عديدة ، يقول الشيخ صالح بن وضاح المنحي (ت 875هـ):
" حفظنا عن أشياخنا رحمهم الله ان مختصر الشيخ أبي الحسن البسيوي رحمه الله كان عليه العمل إلا ثلاث مسائل " (4).
--------
(4) إتحاف الأعيان: ج1 ص230 ، والمسائل كما ذكرها ابن وضاح هي:
الأولى: في الحيض ، ذكر في المختصر أن أكثره خمسة عشر يوما ، والعمل أن أكثره عشرة.
الثانية: عطية الزوجين لبعضهما ، ذكر في المختصر أنه إذا أعطى أحد الزوجين صاحبه عطية فردها عليه في الصحة أو في المرض جاز ذلك ، والعمل أنه إذا رد عليه العطية في الصحة ثبت ذلك ، وأما رده في المرض لا يثبت
الثالثة: هي التي قال فيها إذا حلف الرجل على زوجته على شيء يمنعها منه مما يجوز منعها عنه فعصته فيه أن لا صداق لها ، والعمل على أن لها الصداق. انظر: إتحاف الأعيان ، ج1 ص 230.
،، يتبع ،،
__________________
وذكر الشيخ محمد بن علي بن عبد الباقي أن شيخه ابن وضاح زاد مسألة رابعة أخرجها مما جرى عليه العمل من مختصر البسيوي (1) .
هذا ، والظاهر أن العمل على الفتوى بما في مختصر البسيوي قد امتد إلى أبعد من هذه الفترة ، فقد أخرج الشيخ صالح بن سعيد الزاملي ( من علماء أوائل القرن الحادي عشر الهجري ) المسائل الأربع من مختصر البسيوي من كونها معمولا بها ، وذلك في جواب سؤال وجه إليه (2) .
ولا يعني هذا أن كل علماء المذهب الإباضي في المشرق درجوا على اعتماد مختصر البسيوي في استصدار الفتوى وإعطاء الحكم الشرعي فيما يجد من المسائل والنوازل ، فقد وجدت مؤلفات عدة طيلة هذه الفترة وظهرت بين الحين والآخر كتب تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها ، ولا ريب أنها في مسائل عديدة تخالف ما في المختصر وغيره .
--------
(1) إتحاف الأعيان جـ1 ص230 ، والمسألة الرابعة هي : فيمن علم ببيع شفعته بعد موت البائع هل له شفعة إذا طلبها ، قال في المختصر إنها تبطل بموت البائع والمشتري . قال الشيخ ابن وضاح : وهي لا عمل عليها ، والعمل أنها تفوت بموت المشتري أو الشفيع ، فأما بموت البائع فلا تبطل الشفعة ولا تفوت إذ ماله سبب ، وقد خرجت منه الأسباب لبيعه ماله وخروجه من يده . انظر : إتحاف الأعيان جـ1 ص230 .
(2) إتحاف الأعيان جـ1 ص231 .
__________________
على أن ظهور عدد من العلماء المجتهدين يحول دون اعتمادهم في الفتوى على مختصر البسيوي ، وكان في ظهورهم السبب المباشر في تغير المنهج في اعتماد عمل معين ، وكانوا عاملا فاعلا في حركة الفقه وتطوره ، الأمر الذي نتج عنه الجدة في قضية العمل الفقهي ، سواء بالموافقة والتأصيل أو بالمخالفة والتغيير ، لا سيما إذا علم أن مشهور المذهب عدم جواز تقليد المجتهد غيره (3) .
ومن أبرز هؤلاء الشيخ أبو نبهان جاعد بن خميس الخروصي (ت 1237هـ ) الملقب بالشيخ الرئيس ، وابنه الشيخ ناصر بن جاعد ( ت 1262هـ ) ، والشيخ سعيد بن خلفان الخليلي ( ت 1287هـ ) الملقب بالمحقق – وهو تلميذ للشيخ ناصر بن جاعد الخروصي – ، والشيخ نور الدين عبد الله بن حميد السالمي ( ت 1332هـ ) ، والإمام محمد بن عبد الله الخليلي ( ت 1373هـ ) تلميذ نور الدين وحفيد المحقق الخليلي .
---------
(3) مختصر العدل والإنصاف ص47 ، طلعة الشمس جـ2 ص290 .
،، يتبع ،،
__________________
وفتاوى هؤلاء وجهودهم بيان صادق على المرتبة العلمية التي بلغوها ، وقد أنتجت هذه النهضة العلمية العملية ما يغذي جانب العمل الفقهي ، إذ كان من ثمراتها الجهود الإصلاحية الكبرى التي ابتدأها المحقق الخليلي -رحمه الله- ، وقد استفاد من واقعه العملي في تأليفه ، من ذلك كتاب ( إغاثة الملهوف بالسيف المذكر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) الذي تميز بأنه تمخض عن تجربة واقعية فكان كتابه بحق دستورا في الفقه الجنائي ، فهو من هذه الحيثية يعد عملا فقهيا واقعيا
ومن امثلة ذلك كتاب (جوهر النظام في علمي الأديان والاحكام) للإمام السالمي الذي صاغه بأسلوبه البارع نظما رائقا حتى غدا أنشودة المتعلمين في عمان من بعده ، وصار مرجعا للعالم والمتبدئ والعامي في استقاء الأحكام الشرعية.
__________________
المغرب الإباضي:
أما المغرب الإباضي فمن أقدم ما يخدم مجال العمل الفقهي كتاب " ديوان الأشياخ" أو "ديوان الغار" أو "ديوان العزابة" الذي ألف في رأس القرن الرابع الهجري.
ومن أهم ميزاته أنه صنف من قبل سبعة من العلماء (1) ، مما أعطاه صبغة علمية واضحة وطبيعية مختلفة عن كثير من المؤلفات التي ظهرت في المذهب الإباضي ، وذلك " أنه وضع لجمع الأحكام الشرعية للمسائل الحياتية مختصرة واضحة يرجع إليها المفتي والقاضي " (2).
كما أن فكرة المختصرات التي كانت في الغالب يراد بها بيان المعمول به أو الإرشاد إليه ظهرت في مؤلفات الشيخ أبي زكريا يحيى بن أبي الخير الجناوني (من علماء النصف الأول من القرن الخامس الهجري) ، مثل كتاب الصوم " وهو عادة يصدر بالقول المعمول به " وكتاب "النكاح".
---------
(1) ألف هذا الديوان في جزيرة (جربة) في ( غار مجماج) ، ولذا يسمى بديوان الغار وبديوان الأشياخ نسبة لأشياخ العلم السبعة الذين ألفوه وهم: (1) أبو عمران موسى بن زكريا المزاتي الدمري ، (2) أبو محمد عبدالله بن مانوح اللمائي الهواري ، (3) أبو عمرو التميلي الزواغي ، (4) أبو يحيى زكريا بن جرناز النفوسي ، (5) جابر بن سدّرمام ، (6) كباب بن مصلح المزاتي ، (7) أبو مجبر توزين المزاتي ، انظر لمزيد تفصيل: نظام العزابة عند الإباضية الوهبية في جربة. هذا والبعض يعد ديوان العزابة غير ديوان الأشياخ مثل الشيخ أبي إسحاق أطفيش حيش جعل في مقدمته لكتاب "الوضع" ديوان العزابة مؤلفا من قبل عشرة من العلماء ، بينما ألف ديوان الأشياخ سبعة.
(2) أشعة من الفقه ص 186.
(3) النكاح المقدمة ، ص 8 ، أشعة من الفقه ص 192.
،، يتبع ،،
__________________
الذي كان ينبه فيما فيه خلاف إلى المعمول به ، كقوله : " وقيل إن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي ، وليس عليه العمل عندنا ، والقول الأول هو قول أصحابنا رحمهم الله " (1) . والقول الأول أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج .
وأما ما لم يذكر فيه خلافا فظاهر أن مراده العمل به .
وتستمر المؤلفات الإباضية في المغرب العربي حتى يأتي دور أبي يعقوب يوسف بن خلفون ( من علماء القرن السادس الهجري ) لتكون أجوبته رافدا لقضية العمل الفقهي في بعض المسائل ، حيث يقول في آخر أجوبته مبينا سبب إجابته لسائله : " ... دعاني إلى ذلك ألاَّ أكتم عليك شيئا من الاختلاف والتوقيف على مذهب أصحابنا وما صح به العمل عندهم " (2) ، بعد أن قال في مقدمة كتابه : " وقد كتبت إلينا وفقنا الله وإياك لسبيل مرضاته في مسائل تريد شرحها وبيان اختلاف الفقهاء فيها من السلف والخلف وما اعتمد عليه أصحابنا من ذلك " (3) .
---------
(1) النكاح ص88 .
(2) أجوبة ابن خلفون ص96 .
(3) المصدر السابق ص23 .
__________________
ثم يأتي دور أبي ساكن عامر بن علي الشماخي ( ت 792 هـ ) الذي نوه ببعض الأمور التي عليها العمل عند الإباضية في كتابه " الإيضاح " الذي قال عنه بدر العلماء أحمد بن سعيد الشماخي ( ت 928هـ ) : " وهو اعتماد أهل المغرب في وقتنا خصوصا نفوسة ، وبعده ديوان أبي زكريا يحيى بن الخير ، وبعدهما الديوان ديوان الأشياخ " (4) .
وجعله الشيخ أبو إسحاق إبراهيم اطفيش " مرجع الفتوى بلا منازع " (5) و" معتمد الأصحاب في الفتوى بالمغرب " (6) .
وفي أواخر القرن الثاني عشر وأوائل الثالث عشر الهجريين يؤلف الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم الثميني ( ت 1223هـ ) كتابه القيم " النيل وشفاء العليل " الذي هو اختصار لعدد جم من
----------
(4) كتاب السير جـ2 ص199 .
(5) الوضع ، مقدمة أبي إسحاق اطفيش ص3 .
(6) المصدر السابق ص9 .
،، يتبع ،،
__________________
الكتب التي سبقته ، واختصاره إلى حيث يشبه الرموز في كثير من الأحيان ، فقد أراده " مختصرا في الفقه جامعا ، مبينا لما به الفتوى من مشهور المذهب " كما قال ذلك بنفسه (1).
وقد عد كتاب النيل -في المغرب الإباضي- بمنزلة مختصر الشيخ خليلي في المذهب المالكي (2).
والحال نفسها فيما يتعلق بظهور مجتهدين في المغرب العربي الإباضي ، إذ ظهر قطب الأئمة الشيخ محمد بن يوسف أطفيش (ت 1332 هـ ) الذي يمثل أحد أركان النهضة العلمية الحديثة ، فألف عددا جما من الكتب التي لا ريب أنها تعالج نوازل معيشة ، فيكون دوره الريادي في قضية العمل على نحو ما مضى قوله من أثر أمثال هؤلاء المصلحين في هذه المسألة إما بالتأصيل أو بالتغيير.
___________
(1) النيل ص 4
(2) النيل ، مقدمة عبدالرحمن بن عمر بكلي ص 4.
،، يتبع ،،
__________________
المبحث الثاني : خصائص العمل الفقهي وضوابطه :
لا مراء في أن العمل الفقهي أحد مظاهر الفقه الحضارية من حيث تناوله الجوانب العملية من حياة الإنسان ، ولذلك فهو يمثل قانوناً شرعياً ، ودستوراً للبشرية كلها.
وقبل الدخول في الخصائص والضوابط يحسن أن نتبين مدار العمل الفقهي وطبيعة علاقته بالأحكام الشرعية.
إن العمل الفقهي من حيث مصدره وثيق الصلة بالفتوى التي تكون حلاً شرعياً لنازلة من النوازل ، وذلك بأحد أمرين:
الأول: أن تصدر الفتوى حكما شرعيا يكون علاجا لنازلة معينة يجري العمل بالحكم على مثيلاتها بمقتضاها فتصبح علملا فقهيا قد يمتد قروناً.
الثاني: أن تكون الفتوى جارية على مقتضى عرف أو عادة سبقتها مما لا يعارض دليلاً شرعياً ، سواء كانت المصلحة ترجح بقاءها أو لم يمكن أصلاً سبب لتغيير ذلك العرف أو تلك العادة.
__________________
وقد ورد العمل الفقهي عند الإباضية باسم النوازل في صورتين:
الأولى: " نوازل نفوسة "
وهو عنوان كتاب لم أقف على مؤلفه ، وقد ذكره الإمام قطب الأئمة مرارا في شرح النيل ، والعينات التي نقلها منه هي من قبيل العلم الفقهي ، مثل قول الإمام القطب فيمن قابلتها اثنتان:
" وإن ولدته حيا ومات هو وأمه فقالت أحدهما: مات قبلها ، وقالت الأخرى: بعد ، ففي نوازل نفوسة: القول قول من قالت بعدها " (1)
وقوله:
" وإن اعتدت بالغة بالأشهر –على قول- فحاضت قبل خروج العدة استأنفت بالحيض كذلك ، وقيل: إذا حاضت من دخلت في العدة بالأشهر بنت على ما مضى من الأشهر بالأيام ، وتلغي الحيض وتحسب الأيام ، قال في نوازل نفوسة: هو غير معمول به " (2)
___________
(1) شرح النيل ، ج 5 ، ص 355.
(2) المصدر السابق ج7 ص 426.
،، يتبع ،،
__________________
ويفهم من هذين الأمرين وغيرهما مما ذكره الإمام القطب أن سبيل هذا الكتاب سبيل غيره مما يدخل مجال العمل الفقهي ، وأما نسبته إلى نفوسة فيحتمل أن مؤلفه من نفوسة موطن الإباضية بليبيا ، أو مما هو مجال للعمل بنفوسة . غير أن الرابط بين النوازل وبين العمل يوضح العلاقة المتينة بينهما .
،، يتبع ،،
__________________
الثانية : " نوازل العزابة " :
وهي عبارة عن " دفتر النوازل التي حكم فيها العزابة " (1) .
غير أن مضمون هذا الدفتر يختلف عن نوازل نفوسة ، إذ أورد نوازل العزابة وقائع بعينها وبيان حكم العزابة فيها ، وعلاقتها بالعمل الفقهي من جهتين :
1- بيان بعض الأحكام التي تعبر عن المعمول به ، مثل جريان العمل عند العزابة في كتابة الصداق أن المرأة تصبح في عصمة نفسها إذا تغيب عنها زوجها أكثر من سنتين (2) .
2- استناد الفتوى أو الحكم القضائي على عمل فقهي العمل به جار بمقتضى الحكم الشرعي الذي روعي فيه المصلحة المرسلة .
___________
(1) نظام العزابة ص275 .
(2) المصدر السابق 276 .
،، يتبع ،،
__________________
ويمكننا أن نستخلص – مع هذه الاعتبارات – سمات العمل الفقهي وضوابطه التي تتحكم فيما يلي :
أولا : خصائص العمل الفقهي :
يمتاز العمل الفقهي بأن أحكامه تتناول الجانب العملي التطبيقي من الفقه دون الأحكام النظرية ، ويعرف ذلك من نص العلماء على ما يجري العمل به كما سبق التمثيل عليه في المبحث السابق ، إضافة إلى ما كان من التأليف مما قصد به بيان الأمور المعمول بها عند علماء المذهب أو عند عامة الناس ممن ينتمون إلى بلد أو إقليم معين .
أما التآليف التي تغذي جانب الفقه العملي فلا بد أن تحقق فيها إحدى صفتين : القصد من تأليفها إلى العمل بها ، وجريان العمل بعد تأليفها .
وهي نوعان :
،، يتبع ،،
__________________
أ- التآليف العامة:
التي تشير أحيانا إلى ما عليه العمل ، وهي السمة الغالبة على سائر كتب المذهب الإباضي ككتاب الإيضاح الذي صار مرجع الفتوى في المغرب في فترة من الفترات ، وذلك من حيث اعتماده في استصدار الأحكام الفقهية العملية بالرجوع إما إلى ما نص المؤلف كونه معمولا به أو إلى ما رجحه.
،، يتبع ،،
__________________
ب- التآليف المقصودة لهذا الغرض:
وذلك مثل مختصر البسيوي الذي سبق الحديث عنه ، والملاحظ على هذا الكتاب ومثله أنه لم يغفل بعض الجوانب العقدية ، مما يفيد تأكيد الإباضية على الربط بين القول والعمل في الإيمان ، لأن الفقه وإن كان مقصوده الأسمى جانب العمل إلا أن للعقيدة الراسخة دورا في توجيه الجوارح نحو العمل ودفعها إلى تنظير الفقه ، ولهذا لم تستطع أغلب المؤلفات الإباضية طوال فتراتهم السابقة إغفال الجانب العقدي ، بل على العكس نجد التركيز على بسط مقومات الإيمان وغرس معانيه بشكل واضح جدا ، ووضوحه من خلال عدم إفراد مؤلفات خاصة بالعقيدة وأخرى بالفقه إلا نادراً ، سواء ما يخدم منها العمل الفقهي بشكل مباشر أو عن طريق البيان.
وهذا الربط ينسحب على المختصرات مثل مختصر الخصال ، ما عدا كتاب (النكاح) وكتاب (الصوم) لأبي زكريا ، اللذين يفسر خلوهما من هذا المعنى بأنهما جردا لمجاليهما ، فهما بمنزلة بابين من أبواب أي مختصر قصد به العمل الفقهي.
،، يتبع ،،
__________________
هذا ولا يمنع من المصير الى كون مثل هذه المؤلفات مرادة للعمل الفقهي من ذكر بعضها غير قول في بعض المسائل أو اشتمالها على بعض المسائل الفقهية النظرية ، لأن القضية الأولى عولجت بتصدير ما عليه العمل عند تعدد الآراء أو بالنص عليه ، والثانية بكون الكتاب شاملا لكافة جوانب الفقه نظرا إلى خصائص التشريع الشاملة لك جوانب الحياة.
هذا ويمكن تقسيم العمل الفقهي بالنظر الى نوعية العاملين به إلى ما يلي:
أ?- عمل العلماء:
وهو –لا ريب- يراد به ما تجري به الفتوى من قبل هؤلاء العلماء فيما يعالجون به نوازل حادثة أو تحدث بشكل متكرر ، ويظهر الفرق بينه وبين الإجماع من ستة أوجه:
،، يتبع ،،
__________________
الأول : أن الإجماع لا مخالف له في الدائرة التي ينحصر العمل فيها ، وكذلك الأمر إن اتسعت الدائرة ؛ بمعنى إن أريد بالإجماع إجماع الأمة الإسلامية فلا مخالف له إذن من الأمة ، وإن أريد به إجماع أهل البلد معين فلا مخالف له من ذلك البلد من أي عالم . وأما العمل فنحوه من حيث شمول دائرته بحسب نسبته ، غير أنه قد يوجد له مخالف ولم تجر الفتوى على مقتضى قول ذلك المخالف .
الثاني : أن الإجماع يشمل المسائل النظرية وغيرها ، أما العمل الفقهي فيتوجه إلى القضايا التطبيقية ذات الدلالة الحيوية التي تعالج شرعا بنظر المفتي أو القاضي وفق العمل الفقهي .
الثالث : أن الإجماع يكون حجة بنفسه ، أما العمل الفقهي فلا يستقل بالحجية .
الرابع : أن مستند الإجماع الدليل الشرعي أما العمل الفقهي فقد يخالف الدليل أو الراجح .
الخامس : أن الإجماع لا يصح خرقه ولو طال العهد فحكمه سارٍ ، أما العمل فالعرف والعادة والمصلحة تتحكم فيه بشكل مباشر وقوي .
السادس : أن الإجماع يصدر عن إطباق مجتهدي عصر معين ، أما العمل فهو ما تجري به الفتوى من قبل العلماء ولا يشترط أن يكونوا مجتهدين أو ما يكون عليه عمل الكافة مما لا يناقض دليلا شرعيا .
،، يتبع ،،
__________________
ب- عمل الكافة :
وهو نمط التعامل بين أفراد المجتمع مما يقتضي النظر الشرعي صدور الفتوى أو الحكم بإباحته وإلا لم يسغ بقاؤه أصلا .
ويمثله – في أحد جانبيه – في كتب فقهاء الإباضية ما يعرف بالدلالة أو التعارف الذي كان من أوائل من ألف فيه الإمام ابن بركة في كتابه " التعارف " ( وهذا ما يتجلى أن الفتوى تجري على مقتضاه ما لم يخالف دليلا شرعيا ) .
ويعني ما تجري به العادة بين الناس في المعاملات التي يتعارفون عليها في أمورهم الحيوية والاجتماعية ، وقد أدخل فقهاء الإباضية هذه الأمور ضمن العمل الفقهي لتحاط بسياج الشرع وتضبط بضوابط الإيمان .
،، يتبع ،،
__________________
يدل على ذلك أن مسائل هذه الأعراف صارت أحكاما شرعية كقول الشيخ أحمد بن عبدالله الكندي:
" ... في الدلالة اختلاف بين الناس أجازها أكثر المسلمين ، وأحسب أن بعضا يقول لا يكون إلا على من يتولاه ، والمعمول به أنها في مال الولي وغير الولي ممن يعرف منه ذلك " (1).
______
(1) المصنف ج18 ص28
،، يتبع ،،
__________________
ولنأخذ نصا للشيخ خميس بن سعيد الشقصي لزيادة البيان فيما يتناوله التعارف بين الناس يقول:
" أجمع الناس على تمليك العبيد بالشراء ، ممن يبيعهم بغير إقرارهم ولا صحة عبوديتهم ، على أنهم قد أجمعوا: أن حكم بني آدم الحرية في الأصل ، وكذلك ما يشترى من صغار العبيد بالشراء ممن يبيعهم بغير إقرارهم فقد أجازوا التمليك عليهم ، وقد علمنا أنه لا يقين معنا على ذلك ، ولكن قد جرى بهذا العرف بين الناس ، ولا يكون في شيء مع أهل موضع إلا حتى يكون الإجماع منهم على إباحة ذلك معهم ، لأنه إنما يسمى بسنة البلد ، والسنة لا تكون إلا مجتمعا عليها ، وإذا كان فيها اختلاف فليس بسنة.
وإذا كانت السنة ثابتة معهم في مال الغائب واليتيم والمساجد فهو على ما أدركت عليه السنة ، وإذا كان قد جرى معه أن التعارف لا يكون إلا في مال الحاضر العاقل البالغ فكذلك.
وإذا أراد أحد من أهل الاملاك منع شيء قد أجمع عليه أهل البلد على إباحته فله ذلك لأن هذه سنة تراض ، فإذا لم يرض فقد خرج من حال الإجماع وصار مخصوصا بالكراهية " (2)
________
(2) منهج الطالبين ج13 ، ص 141.
،، يتبع ،،
__________________
أما الجانب الثاني فهو ما يكون شأنه الأحكام الفقهية التي اصطلح عليها أو على العمل بها. وكلا الجانبين إما أن يكونا بنيا على فتوى أو حكم أو بنيا عليهما كما تقدم ذكره.
وينقسم العمل الفقهي من حيث تناوله للمسائل الى قسمين:
- العلم الفقهي الجزئي: وهو المسائل المتفردة التي ينص على جريان العمل بها.
- العمل الفقهي المتكامل : وهو مجموعة المسائل المعمول بها التي تتمثل في المؤلفات المرادة للعمل الفقهي ، وقد سبق التمثيل عليها .
،، يتبع ،،
__________________
كما ينقسم العمل من حيث بيئته إلى :
أ?- ما عليه العمل عند كافة علماء المذهب الإباضي بما فيهم أهل المشرق وأهل المغرب ، وذلك كعدم الضم وعدم الرفع في الصلاة .
ب?- ما عليه العمل عند أهل بلد أو إقليم ، وقد ظهر ذلك في صور منها :
- عمل المغاربة : ولعل أجلى صور لذلك ما يعرف عندهم بنظام العزابة ، وهو مؤسسة اجتماعية دينية يشرف عليها مجلس أعلى يسمى مجلس العزابة أو هيئة العزابة هدفه الحفاظ على كيان المجتمع المسلم وتنظيمه وصلاح أفراده .
وصاحب فكرة تأسيسه أبو زكريا فصيل بن أبي مسور اليهراسني ( توفي في العقد الرابع من القرن الخامس الهجري ) وذلك إثر الوقائع التي أضعفت كيان المذهب الإباضي في المغرب ، طرح أبو زكريا الفكرة سنة ( 408هـ ) وأوعز بتبنيها إلى تلميذه أبي عبد الله محمد بن بكر بن أبي بكر الفرسطائي النفوسي ( ت 440هـ ) ، فعكف أبو عبد الله مدة أربعة أشهر ثم خرج بهذا النظام الذي سمي بداية بالسيرة المسورية البكرية ، وقد استمر العمل عليه عند المغاربة طيلة القرون السابقة ، وتداعى كيانه في بداية القرن الثالث عشر الهجري ، ثم توقف في جربة ونفوسة ، ولا يزال باقيا إلى الآن في وادي ميزاب في الجنوب الجزائري (1) .
________
(1) انظر للتوسع : نظام العزابة ، د . فرحات الجعبيري .
،، يتبع ،،
__________________
عمل أهل الباطنة من عُمان :
ذلك أن عادتهم أن الزجر ( وهو السقي بالدوالي والغرب ) يكون في الثلث الآخير من الليل ، ويستعملون المواشي في ذلك ، والذين يقومون بذلك هم العبيد .
وهذا العمل منهم منذ زمن قديم ، إذ ورد أن ذلك كان في أيام الإمام غسان بن عبد الله الخروصي ( ت 207هـ ) ، وكان جريان العمل على هذا الأمر باقيا إلى ما قبل فترة وجيزة من وقتنا الحاضر ، وقد جاء عن هذا الإمام العادل قوله: " عدلنا إلا في عبيد الباطنة فإنا لم نقدر على أن نعدل فيهم " (1)
ويقول الإما السالمي: " وكان من رأيه رحمه الله منع الاستخدام بعد العتمة مطلقا ، وإلا فأهل الباطنة يريحون عبيدهم بالنهار مقدار ما يستعملونهم بالليل " (2)
___________
(1) شرح الجامع ، ج3 ، ص490.
(2) المصدر السابق
،، يتبع ،،
__________________
عمل أهل وادي ميزاب بالجنوب الجزائري:
كما سبق من بقاء نظام العزابة ، وما ذكر في نوازل العزابة من جعل طلاق المرأة بيدها بعد غياب زوجها أكثر من سنتين بناء على الشرط عند العقد ، وكالذي يجري عليه العمل الآن من اعتبار اشتراط الزوجة في عقد نكاحها أن عصمة النكاح تصبح بيدها إن تزوج زوجها امرأة غيرها.
عمل أهل نفوسة في (ليبيا) : وقد سبق التمثيل عليه من نوازل نفوسة.
عمل أهل جربة: كمثل ما تجري به الفتوى من أن الميت يجعل عليه ما يمنع التراب عنه (3)
___________
(3) شرح النيل ج2 ص 658
،، يتبع ،،
__________________
ثانيا: ضوابط العمل الفقهي
لا تختلف ضوابط العمل الفقهي عن ضوابط الفتوى الشرعية باعتبار كل مسألة بعينها ، والتي يمكن اختزالها فيما يلي:
الكتاب ، السنة ، الإجماع ، القياس ، الاستدلال (خاصة العرف والمصالح المرسلة والاستحسان) ، أما باعتبار أن العمل الفقهي يكون مجموع النظام الذي يرصد أعمال الإنسان في كل جوانب حياته العملية ، فلا ريب أنه قد لا يتفق مع نظر كل مجتهد ، إذ قد يظهر من يخالف عددا من المسائل التي قد تكون درج عليها عدد من الفقهاء وجرى العمل بها ، وقد تقدم المثال على هذا فيما خولف به مختصر البسيوي من المسائل الأربع المذكورة.
،، يتبع ،،
__________________
على أن هذه المخالفة لا تعني التشكيك في كون هذه المصادر التشريعية مراعاة في ذلك العمل الفقهي ، لأنها تدخل في باب أسباب اختلاف الفقهاء المعروفة وعليه فإن ما وجد مما هذا سبيله ينحو هذا المنحى ، وذلك كالذي وجد الشيخ نور الدين السالمي العمل عليه من كون الذي يقيم للصلاة هو إمام الصلاة فأنكر على هذا الفعل إنكارا شديدا ، خاصة لما وجد من يتعنت في قبول الحق الذي استدل عليه من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، واعتذر نور الدين للذين قالوا بهذا القول بأعذار عدة ، إذ لم يريدوا بذلك مخالفة المصطفى صلى الله عليه وسلم .
غير أن لكل من العرف والمصالح المرسلة والاستحسان بروزا في قضية العمل الفقهي .
،، يتبع ،،
__________________
- العرف :
يمثل العرف عند الإباضية أحد مصادر التشريع التبعية التي لا يستغنى عنها في ضبط كثير من الأحكام الشرعية ، لا سيما التي لم ينص عليها نص ولا هي من الإجماع ولا مما يعرف حكمه بالقياس .
وقد أولاه فقهاء الإباضية عناية كبيرة ، وما بوب له في كتبهم بالتعارف أو الدلالة شاهد على هذا الاهتمام ، وقد عَدّ النور السالمي مسائل التعارف مما يتفرع على قاعدة العادة محكمة (1) ، إذ يعد ذلك من باب التيسير الذي يعد أحد خصائص التشريع الرباني مصداقا لقوله تعالى : (( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )) (2) ، وهو بمنزلة ما أقره الرسول صلى الله عليه وسلم من العادات والأعراف التي وجد قومه عليها مما لا يتنافى مع روح الإسلام ، ولذا نجد أن كثيرا مما هو معمول به مراعى فيه جانب الأعراف التي هي من هذا القبيل .
غير أن إدراج العرف ضمن المصادر التشريعية مرهون – عند الإباضية كما عند فقهاء المذاهب الأخرى – بألا يكون مما خالف نصًّا أو أصلاً عامًّا كما يتبين ذلك من النص الذي أوردناه سابقا عن الشيخ الشقصي .
__________
(1) طلعة الشمس جـ2 ص191 .
(2) سورة الحج ، آية : 78 .
،، يتبع ،،
__________________
المصالح المرسلة:
إن اعتبار الإباضية المصالح المرسلة مصدراً للتشريع تبعيا يوحي بأن لها دوراً في التأثير على نوعية الفتوى الشرعية وفحواها إذ توافقت الاحكام المبنية عليها مع مصالح الناس بما يسعفهم على الانضباط مع أهداف الشريعة وغاياتها.
وقد بين الإمام السالمي أن للإباضية اهتماماً بالمصالح المرسلة ، وأن كثير من فروعهم مبني على هذا النوع من الاستدلال (1)
وضرب لذلك مثلا فتوى أبي المؤثر الصلت بن خميس الخروصي (ت 278هـ) بحرق منازل القوم الذين دخلوا في طاعة القرامطة ، وذلك لما حاربوا القرامطة في عمان لئلا يرجعوا يسكنونها ، قال الإمام السالمي:
"ولا مستند لأبي المؤثر في هذه المسألة إلا القياس المرسل وهو النظر في صلاح الإسلام وأهله حتى لا يكون للقرامطة ملجأ يلجأون إليه " (2)
ثم قال:
" وأنت إذا تأملت مذهب الأصحاب رحمهم الله تعالى وجدتهم يقبلون هذا النوع من المناسب ويعللون به لما دل عليه مجملاً ، أي وإن لم يدل دليل على اعتباره بعينه أو جنسه فإن الأدلة الشرعية دالة على اعتبار المصالح المرسلة مطلقا " (3)
(1) طلعة الشمس ، ج2 ص 185.
(2) نفس المصدر ج2 ص 145
(3) نفس المصدر ج2 ص 143
،، يتبع ،،
__________________
الاستحسان:
بين الشيخ السالمي أن الاستحسان أحد المصادر المعتبرة في الشرع فبعد أن ذكر الخلاف في قبوله والخلاف في تعريفه وذكر أمثلة مما ضربوه للاستحسان قال:
" وبعض هذه المسائل موجود في المذهب على هذا الحال الذي ذكروه ، والبعض الآخر يقبله المذهب لوجود نظائره فيه" (1)
وقال الشيخ خلفان بن جميّل السيابي (ت 1393هـ) :
" وفي فتاوى المذهب ما يدل على الأخذ بالاستحسان عند كثير من علماء الأصحاب "(2)
__________
(1) طلعة الشمس ج2 ص 187
(2) فصول الأصول ص 355
،، يتبع ،،
__________________
هذا وإذا عدنا إلى الأمثلة التي ذكرناها سابقا استطعنا الربط بين العمل الفقهي وهذه المصادر التشريعية ، فمثلا :
- ما جرى العمل به عند العزابة من أن المرأة تصبح في عصمة نفسها إذا تغيب عنها زوجها أكثر من سنتين ، ابتنى العمل على هذا الحكم نظرا إلى الضرر الذي يلحق المرأة من غياب زوجها عنها هذه المدة الطويلة ، فالمصلحة داعية إلى رفع الضرر عنها ، وجعل الأمر بيدها إن شاءت فسخت عقدة النكاح وإن شاءت أبقت عليه ، فالمصلحة الشرعية هي الداعية إلى سن هذا العرف الفقهي .
،، يتبع ،،
__________________
- أما عدم الرفع والضم فهو مبني على الحديث الذي رواه الإمام الربيع مرفوعا : " كأني بقوم يأتون من بعدي يرفعون أيديهم في الصلاة كأنها أذناب خيل شمس " (1) .
وقد جرى العمل عند الإباضية على عدم الرفع والضم استنادا إلى هذا الحديث وإلى أخذ الإمام جابر بن زيد من عدد جم من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ ورد عنه قوله : " أدركت سبعين بدريا فحويت ما عندهم إلا البحر " يعني ابن عباس ، فهو بمنزلة العمل الفقهي أو الإجماع العملي الذي استمر واستقر عليه العمل ، وهذه المسألة أشبه بمسألة عمل أهل المدينة .
- أما نظام العزابة فإن معرفتنا بسبب تأسيسه يرجح أن جانب المصلحة اقتضت – من وجهة أنظار مؤسسيه – وجوده حفاظا على كيان الإباضية ، إذ لم يتمكنوا في المغرب العربي من إقامة إمامة إسلامية تحكم بالقسط وتقسم بالعدل ، لا سيما في ظل الدول الجائرة التي كانت تحكم السيطرة على مناوئيها يومئذ ، فهو كالبديل لنظام الدولة الإسلامية غير المقدور على تطبيقه ، ولهذا ليس لنظام العزابة وجود عند إباضية عمان على مدى فترات تاريخهم ، إذ استمر العمل على نصب الخلفاء الشرعيين وإعلان النظام القائم على الحكم بشرع الله سبحانه وتعالى ، متى ما سنحت الفرصة لذلك .
- وأما استخدام العبيد – في فترة سابقة – بعد صلاة العتمة فقد ورد النهي عنه فيما رواه الإمام الربيع من طريق جابر بن زيد قال : " سمعت أناسا من الصحابة يروون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن استعمال العبيد بعد صلاة العتمة " (2) .
__________
(1) الجامع الصحيح حديث رقم 213 .
(2) الجامع الصحيح حديث رقم 687 .
__________________
المرجع:منتدى الاباضية.