لحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
نشأة علم الفقه(1):
نشأت الأحكام الفقهية مع نزول التشريع الإسلامي في صدر الإسلام وهو يمثل الناحية العملية للرسالة المحمدية التي لا تصدر إلا عن وحي من الله - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، فقد استنبطت الأحكام العملية من الآيات القرآنية التي تتنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن الأحاديث النبوية الشريفة.
وفي عهد الخلفاء الراشدين كذلك قام الصحابة - رضي الله عنهم - بهذا الأمر فكانوا يأخذون الأحكام فهماً واستنباطاً وتطبيقاً من كتاب الله - تعالى - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذه مصادر الفقه الرئيسة.
وبعد انتقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى لم يكن الصحابة بحاجة ماسة إلى الاجتهاد إلا في النادر، وذلك لصفاء نفوسهم، وصدق نيتهم وسلامة ذوقهم ومعرفتهم بأساليب اللغة العربية وفهم أسرارها، وكانوا إذا أشكل عليهم شيء اجتهد علماؤهم في ضوء الكتاب الكريم والسنة النبوية الصحيحة، وهما الذكر الوارد في قوله - تعالى -: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ الحجر: 9.
فقد تكفل الله - تعالى - بهذا الحفظ المؤدي للحفاظ على الشريعة الإسلامية المتكاملة و المتوازنة والمتضمنة لجميع مصالح العباد، فسخر الله - تعالى - العلماء جيلا بعد جيل للقيام بهذه المهمة فبعدت بذلك المصادر الإسلامية عن التحريف، وحفظت من التبديل والتغيير الذي أصاب الكتب والشرائع السابقة؛ ولذلك جعل الله - عز وجل - هذه الشريعة ناسخة للشرائع السابقة بما فيها من خصائص وصفات وبما تحمله من مميزات ومؤهلات، قال الله - تعالى -: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا المائدة 43، و جعلها صالحة لكل زمان ومكان، وأهلها لتكون لها الهيمنة والسيطرة والمكانة البارزة على ما سبقها كيف لا وهي المستمدة من فوق سبع سموات.
وبعد انتشار الإسلام وزيادة عدد أتباعه:
دعت الحاجة إلى إيضاح كثير من القضايا الفقهية، فزاد الفقه بشكل واسع حتى أصبح علماً أساسياً نافعاً، وصار مورداً عذباً لبيان مقاصد الشريعة، وكيفية استنباط الأحكام من النصوص بوساطة العلماء المؤهلين المواظبين على حفظ ودراسة أصول الشريعة وفهم مقاصدها، وتعلم اللغة العربية وإتقان قواعدها، وهنا دعت الحاجة إلى نشأة الفقه واستقلاله، و قيامه كعلم مستقل مدون و متكامل يوضح المقصود لكثير من النصوص الشرعية، ويبين مقاصدها.
نشوء المذاهب الإسلامية، أو بيان كيف نشأت المذاهب الفقهية (2):
المدارس أو المذاهب الفقهية نشأت بصورة تلقائية نتيجة انتشار العلم وانتقال العلماء لبيئات جديدة تحتاج إلى حل مشكلاتها بيسر وسهولة، ونظراً لعدم قدرة كثير من الناس على تعلم الأحكام والتفرغ لذلك أو عدم قدرة جميع من يطلب العلم على الاجتهاد والاستنباط من الأدلة أو من الكتاب والسنة مباشرة؛ دعت الحاجة الماسة لمعرفة أحكام الدين عن طريق سؤال العلماء واتباعهم؛ لذلك نشأت تلك المذاهب الفقهية.
ويجدر الإشارة إلى أن الأصل هو عدم التمذهب بمذهب فقهي معين، وكان جميع أئمة المذاهب يدعون لعدم التعصب لمذهب محدد، واتباع الدليل من الكتاب والسنة لمن كان مؤهلاً لذلك، فقد كان أئمة المذاهب الفقهية حريصين على تقديم الكتاب والسنة والتحاكم إليهما، وقد صح عن كثير منهم (أي أئمة المذاهب الفقهية وتلاميذهم) أنه قال: " إذا صح الحديث فهو مذهبي ".
نشأة المدرسة الفقهية الأولى في المدينة النبوية في عهد الصحابة - رضي الله عنهم - حين يتوجه الناس بأسئلتهم لعلماء الصحابة الذين اشتهروا بحب العلم والفقه وبرزت ملكة الاجتهاد عندهم نتيجة حفظهم للقرآن الكريم ووقوفهم على تفسير آياته وحرصهم على ملازمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومصاحبته وحفظ سنته وفهمها.
وقد عُرف عدد كبير من الصحابة بالعلم والفقه؛ فمنهم المكثر من الفتيا كعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وعبد الله ابن عباس، وعبد الله بن عمر، وأم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر - رضي الله عنهم – جميعاً، ومنهم المقل (كأبي بكر الصديق وعثمان ابن عفان) - رضي الله عنهم - جميعاً.
الانتقال بين الأمصار ونشر العلم:
ثم انتقل عدد من الصحابة لمختلف الأمصار الإسلامية، وتتلمذ على أيديهم عدد كبيرٌ من التلاميذ، الذين أخذوا علمهم ونشروه وعلَّموه للناس، واستمر نقل العلم إلى أن وصل للأئمة الأربعة وغيرهم، ولكن نظرا لاهتمام تلاميذ الأئمة الأربعة بتدوين علمهم ونشر كتبهم؛ اشتهرت هذه المذاهب على غيرها، وأصحاب المذاهب الأربعة المشهورة هم:
1- الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت (ولد80 هـ وتوفي 150هـ).
2- الإمام مالك بن أنس الأصبحي (ولد 93هـ وتوفي 179هـ).
3- الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ولد 150هـ وتوفي 204هـ).
4- الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (ولد 164هـ وتوفي 241هـ).
وقام تلامذة الأئمة الأربعة بالاستمرار في تدوين كتبهم، وشرحها ونشر علمهم بين الناس، وظهر علماء آخرون في مختلف الأمصار الإسلامية وآراؤهم محفوظة في الكتب الفقهية، ولم ينشط تلاميذهم أو أصحابهم في نشره كتبهم وخدمتها وشرحها، أو نشر فقههم ومذهبهم، فلم يُكتب لها البقاء والانتشار، وبقيت المذاهب الأربعة المعروفة لأهل السنة إلى يومنا هذا، وتوجد عوامل أخرى ساهمت في انتشار فقه الأئمة الأربعة كالعامل السياسي، مثل: حمل بعض الحكام الناس على الالتزام بمذهب معين، ونشر كتبه دون غيره.
أما سبب انتشار أصحاب المذاهب الأربعة دون غيرهم من العلماء:
أنهم قاموا بتأليف كتب تحمل فتاواهم وآراءهم، بينما لم يقم معظم الفقهاء بهذا الأمر.
إضافة إلى قيام تلاميذ هؤلاء الفقهاء الأربعة بخدمة كتب مشايخهم، و شرحها ونشرها بين الناس، والعناية بتدريسها، ولذلك سنعرف بمذاهب هؤلاء الأئمة الأربعة.
وبعد هذا السرد التاريخي لنشأة المذاهب الفقهية يمكننا أن نعرف المذهبية أو المذاهب الفقهية.
فالمذهب الفقهي:
اصطلاح ظهر خلال القرن الثاني، واتضح في القرن الرابع الهجري، بعد تميز المذاهب الفقهية تماما، وهو عند الفقهاء: الاتجاه الفقهي في فهم أحكام الشريعة والطريقة التي ينهجها المجتهد أو عدد من المجتهدين في الاستنباط، وكيفية الاستدلال، والفروع التي تضاف في ضوء أصول المذهب.
المذاهب الفقهية الأربعة ليست تجزئة للإسلام ولا إحداث تشريع جديد، وإنما هي مناهج لفهم الشريعة، وأساليب في تفسير نصوصها، وطرق في استنباط الأحكام من مصادرها الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
وأصول المذاهب تتميز عن بعضها بسبب اختلاف أصحابها في مناهج الاجتهاد والاستنباط، وليس في الأصول الكلية أو الأدلة الإجمالية، إذ المنهج الاجتهادي الخاص، واختيارات كل إمام فيما يأخذ به من الأدلة التبعية، هو الذي يميز بين "أصول المذهب" و"أصول الفقه".