..... ولــكــنّ أكــثـرَكــم لـلــــحقّ كــارهـــون
الموتُ نقيضُ الحياة ، ولذلك ترد كلمةُ الموت ومشتقاتها ( المتعلّقة بالإنسان ) في كتاب الله تعالى وروداً متوازناً تماماً مع كلمة الحياة ومشتقّاتها ( المتعلّقة بالإنسان ) ، فكلٌّ منهما ترد في كتاب الله تعالى ( 144 ) مرّة ..
وسواءٌ الموت أم الحياة لكلٍّ منهما وجهيه المادّي والروحي ، فكم هناك من المحسوبين مع الأحياء يصفهم الله تعالى بالأموات ( روحيّاً ) ..
( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) ( النحل : 21 ) ..
وكم هناك من الموتى الذين فارقوا الحياة الدنيا بأجسادهم يصفهم الله تعالى بالأحياء ..
( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ ) ( البقرة : 154 ) ..
والفكر هو آليّة التدبّر والنظر في ماهيّة الأشياء وما يجري من أمور ، وبالتالي هو طريق التعقّل والإدراك .. ولذلك نرى أنّ العقل والفكر كاسمين لم يردا في كتاب الله تعالى ولا مرّة ، وأنّ ما وردَ هو الصيغ الأخرى ( غير الاسميّة ) .. فالله تعالى يقول لنا من خلال ذلك : لا تُوجدُ آليّةُ تفكيرٍ وتعقّلٍ ( بعينها ) صالحة لكلِّ زمانٍ ومكان ، فلكلِّ زمانٍ ومكانٍ آليّاتُه الخاصّة للتفكير والتعقّل ، والتي تتعلّقُ بالسويّة الحضاريّة للجيل الذي يعيش في ذلك الزمان والمكان ، بحيث يكون كتابُ الله تعالى المرجعَ الحاملَ لكلِّ آليّات التفكّر والتعقّل في كلِّ زمانٍ ومكان ..
إذن لا بدّ من معايرة مفهومنا للموت والحياة على دلالات كتاب الله تعالى ، حتى نستطيع تقييم موقع أنفسنا ما بين الموت والحياة ، وبالتالي معرفة موقعنا ( كأمّة ) بين الأمم .. ولا بدّ من إدراك الجوانب السلبيّة في حركتنا التاريخيّة ، قبل الإيجابيّة ، حتى نستطيعَ تجاوزَ هذه السلبيّات ، والعملَ على بناء مستقبل أمّتنا بشكلٍ سليمٍ بعيدٍ عن سلبيّات هذه الحركة .. ولا بدّ من تقويم آليّاتنا الفكريّة على ضوء ما يحمل كتاب الله تعالى من دلالاتٍ ومعانٍ للحضارة التي نعيشها – للأسف – بأجسادنا لا بفكرنا ..
لا بدّ أن نعلمَ أنّ فكر الأمّة هو الملهمُ للدفع الثقافي الذي يعيشه أبناؤها ، والملهمُ للقوّة التي تدفع دفّةَ تطوّرها الحضاري ، والملهمُ لألوان معاييرها الأخلاقيّة التي تنبع من قيمها .. وأنّه بمقدار ما تتطابق معاييرها الفكريّة مع منهج الحقّ بمقدار ما يستمرُّ عطاؤها الحضاري للبشريّة جمعاء ..
وقَدَرُ أمّتنا العربيّة والإسلاميّة أن يكونَ معيارُ فكرها القرآنَ الكريم ، ومعيارُ حضارتِها الاقترابَ من العملِ بأحكامه ، ومعيارُ حياتها الإدراكَ السليم لدلالاته .. فكلُّ عربيٍّ ( مسلماً كان أم مسيحيّاً ) مُدانٌ في لغته القوميّة للقرآن الكريم الذي كان الضامنَ الأوّلَ لعدم تغيّر هذه اللغة عبر قرونٍ كثيرة كما حصل مع الكثير من الأمم .. وكلُّ مسلمٍ مُدانٌ في انتمائه العقائدي للقرآن الكريم الذي كان الضامنَ الأوّلَ لتصحيح هذا الانتماء عبر التاريخ ..
.. لذلك يتمُّ فرزُ الأحداثِ التاريخيّة ، والقراءاتِ المختلفة للمنهج ، والرجالِ الحاملين للواء الفكر ، حسب الاقتراب من حقيقة دلالات كتاب الله تعالى ، كما يبيّنها كتابُ الله تعالى ، لا كما يُلبّس على دلالاته من قبل الذين يدعون لأنفسهم ولمذاهبهم تحت اسم الدعوة للإسلام ..
والمشكلة بين حاملي لواء الفكر الإسلامي عبر التاريخ ، تكمن في الاختلاف حول إدراك دلالات القرآن الكريم ، وفي فرض بعض الروايات التاريخيّة المنسوبة إلى الرسول والمخالفة بظاهرها وباطنها لدلالات كتاب الله تعالى ، كرواياتٍ مقدّسةٍ تؤطِّرُ حدودَ إدراك أحكام القرآن الكريم ، بل ويملك بعضها – حسب زعم الكثيرين – صلاحيّة نسخ بعض أحكام كتاب الله تعالى ، وكأنّ كتابَ الله تعالى ناقصٌ لا بدّ من معايرته على التاريخ .. وتكمن أيضاً في التقوقع الفكري داخل أطرٍ مذهبيّة تسجن دلالات كتاب الله تعالى في إدراك بعض الرجال الذين أسّسوا هذه المذاهب ..
وحينما يأتي متدبّرٌ لكتاب الله تعالى ، تقوم الدنيا على رأسه ولا تقعد ، قبل أن يقرأ أحدٌ ما يقول ، وبذلك يتساوى – عند هؤلاء – الخطأُ مع الصحيح ، والجاهلُ مع العالم ، والباطلُ مع الحقّ .. كلُّ ذلك لأنّ المعيار الوحيد للحقِّ والباطل هو المذهب ، والشيخ ، والعصبيّة العمياء ..
أليس في مقتل أبي حنيفة النعمان ، وفي محنة أحمد بن حنبل ، وفي وفي ..... أكبرُ دليلٍ على صحّة ما نقول ؟ .. كلُّ مذهبٍ فكريٍّ يعتقدُ أتباعُه أنّه حصيلةُ إجماع الأمّة ، وبالتالي فالمذاهب الأخرى تحمل أفكاراً خارج إجماع الأمّة ، وبالتالي فهذه المذاهب بعيدة عن الإسلام بمقدار بعدها عن هذا المذهب .. وحينما يخرج متنوّرٌ ويطلب البرهانَ على أيِّ مسألة من المسائل التي يُقال بأنّ الأمّة أجمعت عليها ، يُتّهم بنشر الفتنة بين أفراد الأمّة ، وبالتآمر ، وربّما بالكفر والزندقة ..
معظمهم يقول : أجمعت الأمّة على مسألة الناسخ والمنسوخ ، وحينما يُسأل هؤلاء عن حديثٍ واحدٍ لرسول الله ، يبيّن فيه مسألة النسخ ، ولو بأيِّ درجة من الصحّة كانت ، أو يسألون عن عدد الآيات التي يزعمون أنّ الأمّة أجمعت على نسخها ، لا يجدون جواباً سوى اتّهام السائل بالخروج على إجماع الأمّة ..
وحينما يُسألون عن التوفيق بين مسألة الناسخ والمنسوخ التي هي – حسب ما يصوّرونها – قمّة الاختلاف بين أحكام كتاب الله تعالى ، وبين دلالات الآية الكريمة ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) ( النساء :82 ) .. وحينما يُسألون عن التوفيق بين عرضهم لمسألة الناسخ والمنسوخ التي هي في النهاية عدمُ اتّباعٍ لبعض أحكام كتاب الله تعالى التي تحملها بعض كلماته المرسومة ، وبين دلالات الآية الكريمة التالية التي تؤكّد أنّ كلّ عبارة قرآنيّة لها ساحة اتّباع في كلّ زمانٍ ومكان ( اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ) ( الأعراف :3 ) ، لا يجدون جواباً إلاّ أنّ النسخَ واردٌ بنصٍّ صريح في قوله تعالى ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( البقرة : 106 ) ..
وحينما يُطلبُ منهم العودة إلى دلالات هذه الآية الكريمة ضمن سياق الآية السابقة لها ، حيث يتبيّن أنّ النسخَ المعنيَّ هو نسخ أحكام كتاب الله تعالى لما قبله من الأحكام والشرائع .. ( مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( البقرة : 105 – 106 ) ، وأنّ كلمة آية تعني الحكم ( ولا تعني مجموعة كلمات قرآنيّة ) ، بدليل قوله تعالى ( سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( النور : 1 ) .. حين ذلك لا يجدون جواباً إلاّ بعرض بعض الآيات الكريمة عبر تفسيرٍ تاريخي يجعلُ بينها اختلافاً وتناقضاً بغية البرهنة على مسألة الناسخ والمنسوخ .. وكأنّ الهدف ليس تدبّر دلالات كتاب الله تعالى ، إنّما الجدال لإثبات التفسير التاريخي ، ولإثبات صحّة المذهب الفكري ولو على حساب العقل والمنطق .
.
ومن أكثر المسائل التي يستشهدون بها ، مسألةُ الخمر .. بأنّ الصورة القرآنيّة الكريمة ( يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ) ( البقرة : 219 ) ، منسوخة ، لأنّها تحمل – حسب زعمهم – حُكم إباحة شرب الخمر .. وحينما يُقال لهم : إنّ هذه الآية الكريمة لا تحمل أبداً حكم إباحة شرب الخمر ، بل هي الآية الوحيدة في كتاب الله تعالى التي تحرّم الخمرَ بصيغة التحريم ، وذلك بالتكامل مع دلالات الصورة القرآنيّة الكريمة ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْم ) ( الأعراف : 33 ) ، حيث يبيّن الله تعالى أنَّ الخمرَ فيه إثمُ كبير ، وأنّ الإثم حرام ، وبالتالي فالخمرُ مُحرّمٌ حرمة كبيرة ، وإنّه لا داعي لنسخ هذه الصورة القرآنيّة .. حينما يُقال لهم ذلك ، يعودون إلى أسباب النزول ، وكأنّ القرآن الكريم نصٌّ تاريخيٌّ خاصٌّ بالجيل الأوّل ، ويعودون فيستشهدون بالصورة القرآنيّة ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) (النساء : 43 ) ..
وحينما يُقالُ لهم : إنّ الأولى بإدراك دلالات كلمة ( سُكَارَى ) في هذه الآية الكريمة ، هو العودة إلى هذه الكلمة ومشتقّاتها في كتاب الله تعالى ، فهي تعني في كتاب الله تعالى سدّ منافذ الإدراك بحيث لا يعلم الإنسان ما يقول :
( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ) ( الحجر : 15 ) ..
( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ( الحجر : 72 )
( يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) ( الحج : 2 )
( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) ( ق : 19 )
وممّا يؤكّد ذلك أنّ الصورة القرآنيّة ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) تنطق بهذه الحقيقة ، فحالة السكارى تنتهي حينما يعلم الإنسان ما يقول ، وبالتالي فحالة السكارى المعنيّة هنا هي عدم علم الإنسان لما يقول ، وهذا يكون بأسباب مختلفة كالخوف وغيره ، وبالتالي فالآية لا علاقة لها بالخمر ، لأنّها تبدأ بخطاب المؤمنين في كلِّ زمانٍ ومكان ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) ، والمؤمنون الملتزمون بمنهج الله تعالى – في كلِّ زمانٍ ومكان – لا يشربون الخمر ..
حينما يُقال لهم ذلك لا يجدون ما يقولونه إلاّ أنّ جميع مشتقّات الجذر ( س ، ك ، ر ) ، التي هي – كما رأينا – بمعنى سدّ منافذ الإدراك ، تحمل معنى مجازيّاً ، وإذا قيل لهم لنفرض أنّ الأمر كذلك – وهو ليس كذلك – فلماذا لا يكون السكر المعني بالآية المزعوم نسخها مجازيّاً كغيره ، حين ذلك لا يجدون ما يقولونه سوى تكفير القائل وإلصاق التهم به ..
كلّهم يتحدّثون عن المرحليّة حين عرض مسألة الناسخ والمنسوخ ، بأنّ أحكام القرآن الكريم نزلت لمراحل مختلفة ، وأنّ تحريم الخمر لو نزل دفعةً واحدة لاستثقله الناس .. دون أن يعيروا فكرهم ولو للحظةٍ واحدة أنّ أحكامَ القرآن الكريم صالحةٌ لكلِّ زمانٍ ومكان ، وأنّ المرحليّة ليست في ماهيّةِ النصِّ القرآنيّ وأحكامِهِ كما يُزعم في مسألة الناسخ والمنسوخ ، إنّما هي في استقبال الجيل الأوّل لهذه الأحكام ، وفي عدم نزول القرآن الكريم دفعةً واحدة ..
وكيف تكون بعض أحكام كتاب الله تعالى مرحليّة ، وصالحة لأزمنة وأمكنة محدّدة ، كما يُزعم في مسألة الناسخ والمنسوخ ؟! .. أليس ذلك يؤدّي إلى أنّ القرآنَ الكريمَ مخلوقٌ لأنّ بعضَ أحكامه خضعت للزمان والمكان ؟!!! .. إنّ كون القرآن الكريم ليس مخلوقاً ، يقتضي حتماً استحالة احتوائه على آياتٍ منسوخة ..
يتكلّمون عن الناسخ والمنسوخ في مسألة تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام ، مع العلم أنّه لا يُوجدُ نصٌّ قرآنيٌّ يشير إلى أمر الله تعالى لرسوله بالتوجّه نحو القبلة الأولى ، فرسول الله توجّه هو والمؤمنون نحو بيت المقدس ( 17 ) شهراً قبل الأمر الإلهي بالتوجّه نحو البيت الحرام ، دون نزول نصٍّ قرآنيٍّ خاصٍّ بالتوجّه نحو القبلة الأولى .. والصورة القرآنيّة التالية تؤكّد هذه الحقيقة ( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ) [ البقرة : 143 ] ..
فالله تعالى لم يقل لرسوله ( وما جعلنا لك القبلة التي كنت عليها ) ، ولم يقل ( وما جعلنا القبلة التي أمرناك بها ) .. لقد توجّه الرسول إلى بيت المقدس في البداية ، ولكن ليس من خلال نصٍّ قرآنيٍّ ، والنصّ القرآنيُّ ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه ) [ البقرة : 144 ] ، يؤكّد ذلك ، فقوله تعالى ( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ) يؤكّد أنّ الرسول لم يكن راضياً عن توجّهه في القبلة الأولى ، ولو كان التوجّه إلى القبلة الأولى بأمرٍ من الله تعالى لرضي عنه ، فالرسول لا يمكنه ألاّ يرضى عن أمر الله تعالى ..
.. بعد ذلك عن أيِّ ناسخٍ ومنسوخٍ يتحدّثون ؟!! .. أين هو النصُّ القرآنيُّ المنسوخ في هذه المسألة ؟!! .. ولا أريد الإطالة في الحديث عن أوهام الناسخ والمنسوخ ، فقد بيّنت في النظريّة الثالثة ( الحقّ المطلق ) هذه المسألة من بدايتها إلى نهايتها ، عبر المرور على أهم الآيات الكريمة التي يزعمون نسخها ، وتمّ تأكيد ذلك في النظريّة الخامسة ( إحدى الكُبَر ) عبر معيارٍ رقميٍّ لا يعرف الكذب والخداع ..
الكثيرون يقولون في الآية الكريمة التالية :
( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) ( الأعراف : 143 ) ، بأنّ قوله تعالى ( قَالَ لَنْ تَرَانِي ) هو دليل وقوع الرؤية ، حتى في الحياة الدنيا ، ضاربين بعرض الحائط الحدّ الأدنى من المنطق ، ومن قواعد اللغة .. كلّ ذلك لمخالفة مذاهب فكريّة أخرى ..
ويبرّرون قولهم هذا بأنّ الله تعالى ربط الرؤية بأمرٍ ممكن الوقوع ، وهو استقرار الجبل مكانه ، مع العلم أنّ الله تعالى لم يقل ( لن تراني حتى يستقرَّ الجبل مكانه ) .. وحتى لو فرضنا جدلاً أنّ الله تعالى قال ذلك ، فاستشهادهم غير سليم ، لأنّ الجبل لم يستقر مكانه ( فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً ) .. وقوله تعالى ( وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ) ، هو لتبيين سبب عدم الرؤية ، لا لربط الرؤية باستقرار الجبل أو بعدم استقراره ، والاستدراك الذي تبيّنه كلمة ( وَلَكِنِ ) في هذه الصورة القرآنيّة يؤكّد ذلك ..
ويبرّرون قولهم هذا أيضاً بأنّه ليس من المعقول أن يطلب موسى عليه السلام أمراً غير ممكن ، ويتناسون أنّ نوحاً عليه السلام قد طلب أمراً غير ممكن ، وحذّره الله تعالى من ذلك ، وذلك حين طلب من الله تعالى إنقاذ ابنه الكافر من الغرق ( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) [ هود : 46 ] ..
ويتناسون نهاية الآية الكريمة التي يزعمون أنّها دليلٌ على وقوع الرؤية في الدنيا ، ( وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) ، فقول موسى عليه السلام ( سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) يؤكّد أنّه طلب ما هو غير ممكن ..
.. ثمّ من قال إنّ موسى عليه السلام لم يكن عالماً أنّ رؤية الله تعالى في الحياة الدنيا مستحيلة ، عبر الآليّة العينيّة التي تحكم بصره كبشر في هذه الدنيا ؟!! .. أليس قوله ( رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) يعني اجعلني ولو بأيِّ آليّة أنظر إليك ، وبالتالي لم يكن جاهلاً أنّ الآليّة العينيّة التي تحكمه غير مؤهّلة لرؤية الله تعالى ..
إنّ المشكلة تتجلّى في أبشع صورها حينما يزعمون أنّ قوله تعالى ( قَالَ لَنْ تَرَانِي ) دليلٌ على الرؤية .. فالآية الكريمة التي تبيّن أنّ رؤية الله تعالى – في الدنيا – غير ممكنة ، يستخدمونها كدليلٍ على إمكانيّة الرؤية ووقوعها في الحياة الدنيا !!! .. ضاربين بعرض الحائط أيضاً دلالات الآية الكريمة التالية ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) ( الأنعام : 103 ) ..
نحن لا نتكلّم عن عدم إمكانيّة الرؤية في الآخرة كما ذهبت المعتزلة ، ولا نريد أن ندخل في أعماق هذه المسألة ، إنّما نقول : لا تستخفّوا بعقولنا ، ولا تقفزوا فوق دلالات القرآن الكريم الواضحة وضوح الشمس ، لإثبات العصبيّات الفكريّة التي هدفها الفكريّ الأوّل والأخير الدعوة للمذهب لا لله تعالى ، ولا لمنهجه الذي أنزله للبشريّة جمعاء ، لا لهذا المذهب أو ذاك ..
ولا نريد الإطالة في هذه المسألة ، فنحن نبيّن شواهد على بعض المذاهب التفسيريّة التي تقتل الفكرَ ، عبر فرض بعض القراءات التاريخيّة كمنهجٍ تفسيريٍّ يريدونه معياراً حتى لكتاب الله تعالى ..
والطامّة الكبرى تكمن في تكفير من لا ينصاع بفكره وعقله لهذه العصبيّات الفكريّة الغارقة في مستنقع الفعل التاريخي وردّ الفعل ، فلأنّ الطرف الآخر ذهب باتّجاهٍ فكريٍّ محدّدٍ ، لا بدّ من الذهاب بالاتّجاه المعاكس ، حتى لو كان ذلك بالقفز فوق بعض دلالات كتاب الله تعالى الواضحة وضوح الشمس ..
هؤلاء التائهون – فكريّاً – في أنفاق التاريخ ، والذين يريدون تقديم بعض القراءات التاريخيّة كنصٍّ مقدّسٍ تُعاير عليه حتى دلالات كتاب الله تعالى ، لا يقبلون أيَّ آليّة للحوار البنّاء ، لأنَّ مبدأ الحوار والتدبّر يتعارض مع حقيقة منهجهم في تقديم التاريخ كبديلٍ عن منهج الله تعالى ..
هذا القانون التاريخي لم يتغيّر منذ العصور الأولى حتى الآن .. فهل اقتتال المسلمين ابتداءً من معركة الجمل وصفّين والحرّة و ....... حتى اقتتال الأخوة في الآن في أنحاءِ العالَم الإسلامي ، كان نتيجة اختلافٍ على مفهوم الشهادة ، أو على عدد الصلوات اليوميّة ، أو لاختلافٍ في فريضة الزكاة ، أو الحجّ ، أو الصيام ؟!! ..
ما داموا جميعاً متّفقين على كلّ ذلك ، ومجمعين على القرآن الكريم ، وعلى الرسالة التي أنزلت على محمّد ، وما داموا جميعاً يقرؤون قول الله تعالى ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ) ( النساء : 93 ) ، ويقرؤون قوله تعالى ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ ) ( البقرة : 256 ) ، فلماذا قُطعت مئاتُ الآلاف من رؤوس المسلمين تحت اسم حماية الإسلام والذود عنه ؟!! ..
نحن لا نقول ذلك من أجل نبش فتن التاريخ كما يزعم التائهون ، إنّما نقول ذلك لأنّ هذا القانون التاريخي الذي صبغ الكثير من عصورنا عبر التاريخ ، ما زال فاعلاً وبأبشع صوره ، ولأنّ السقفَ الفكريَّ لهذه الأمّة بات محكوماً لعتبة العصبيّات التي نتجت عن تلك الفتن ..
ونحن بقولنا هذا لا ننكر – كما يفهم الجاهلون – فضل الأوائل الذين جعلوا أحكام هذا الدين وشعائره وسنّةَ الرسول واقعاً متحقّقاً عبر التاريخ ، والذين كانوا السبب الأوّل في وصول منهج الله تعالى إلينا .. إنّما ننكر مصادرة دلالات كتاب الله تعالى التي يحملها لكلّ جيل ، تحت أيِّ ادّعاءٍ كان ، وننكر القول بجفافَ دلالات كتاب الله تعالى وتعليبها داخل حجرات التاريخ ، لأنّ الله تعالى يقول : ( قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ) ( الكهف : 109 ) ..
من هنا نرى كيف يذهب بعضهم إلى قتل فكر الأمّة عن طريق فرض فكرهم المتقوقع في سجن عصبيّتهم التاريخيّة التي تلبس ثوب المذهبيّة .. فالعيب ليس في التمذهب الفكريّ بمقدار ما هو في فرض المذهب الفكري على الآخرين ، وفي تقديمه كقراءة أخيرة لمنهج الله تعالى ..
وهذا لا يعني التسليم لأيِّ فكرٍ جديد يقفز فوق الموروث ، ولا يعني إنكار الموروث الفكري ، ولا يعني قبول الموروث الفكري على ما هو عليه لأنّه موروثٌ فكريّ ، إنّما يعني عدم قبول الفكر دون تقديم الحجّة والبرهان من كتاب الله تعالى ، كتطبيقٍ لقوله تعالى ( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) ( البقرة : 111 ) ، ويعني المعايرة المستمرّة لأيِّ فكرٍ على منهج الله تعالى ، حتى يستمرّ التطوّر الفكريّ لهذه الأمّة مع الزمن للاقتراب أكثر من مراد الله تعالى في كتابه الكريم ، كما يريد الله تعالى .. ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( فصلت : 53 ) ..
.. لا بدّ أن يُعيد كلُّ مذهبٍ فكريٍّ النظر في تقييمه للمذاهب الفكريّة الأخرى ، وأن يسعى إلى تطوير فكر الأمّة للاقتراب من مراد الله تعالى في منهجه ، حتى نكون أمّةً حيّةً تنتجُ الفكر ولا تخطفه وتغرقه في مستنقعات عصبيّات مذاهبها ، وحتى تسري الحياة في جسد هذه الأمّة ، وحتى لا نكونَ السببَ والمعاول التي تهدم بنيانها ، وحتى لا نكون من الذين يعنيهم قول الله تعالى :
( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) ( الأنعام : 159 )
( فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) ( المؤمنون : 53 ) ..
المهندس عدنان الرفـاعي
كاتب ومــفكِّـر إســلامي
سـوريـة – درعــا – تلـشـهاب
هاتف جـوّال : 252300 955 00963 www.thekr.net
الموتُ نقيضُ الحياة ، ولذلك ترد كلمةُ الموت ومشتقاتها ( المتعلّقة بالإنسان ) في كتاب الله تعالى وروداً متوازناً تماماً مع كلمة الحياة ومشتقّاتها ( المتعلّقة بالإنسان ) ، فكلٌّ منهما ترد في كتاب الله تعالى ( 144 ) مرّة ..
وسواءٌ الموت أم الحياة لكلٍّ منهما وجهيه المادّي والروحي ، فكم هناك من المحسوبين مع الأحياء يصفهم الله تعالى بالأموات ( روحيّاً ) ..
( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) ( النحل : 21 ) ..
وكم هناك من الموتى الذين فارقوا الحياة الدنيا بأجسادهم يصفهم الله تعالى بالأحياء ..
( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ ) ( البقرة : 154 ) ..
والفكر هو آليّة التدبّر والنظر في ماهيّة الأشياء وما يجري من أمور ، وبالتالي هو طريق التعقّل والإدراك .. ولذلك نرى أنّ العقل والفكر كاسمين لم يردا في كتاب الله تعالى ولا مرّة ، وأنّ ما وردَ هو الصيغ الأخرى ( غير الاسميّة ) .. فالله تعالى يقول لنا من خلال ذلك : لا تُوجدُ آليّةُ تفكيرٍ وتعقّلٍ ( بعينها ) صالحة لكلِّ زمانٍ ومكان ، فلكلِّ زمانٍ ومكانٍ آليّاتُه الخاصّة للتفكير والتعقّل ، والتي تتعلّقُ بالسويّة الحضاريّة للجيل الذي يعيش في ذلك الزمان والمكان ، بحيث يكون كتابُ الله تعالى المرجعَ الحاملَ لكلِّ آليّات التفكّر والتعقّل في كلِّ زمانٍ ومكان ..
إذن لا بدّ من معايرة مفهومنا للموت والحياة على دلالات كتاب الله تعالى ، حتى نستطيع تقييم موقع أنفسنا ما بين الموت والحياة ، وبالتالي معرفة موقعنا ( كأمّة ) بين الأمم .. ولا بدّ من إدراك الجوانب السلبيّة في حركتنا التاريخيّة ، قبل الإيجابيّة ، حتى نستطيعَ تجاوزَ هذه السلبيّات ، والعملَ على بناء مستقبل أمّتنا بشكلٍ سليمٍ بعيدٍ عن سلبيّات هذه الحركة .. ولا بدّ من تقويم آليّاتنا الفكريّة على ضوء ما يحمل كتاب الله تعالى من دلالاتٍ ومعانٍ للحضارة التي نعيشها – للأسف – بأجسادنا لا بفكرنا ..
لا بدّ أن نعلمَ أنّ فكر الأمّة هو الملهمُ للدفع الثقافي الذي يعيشه أبناؤها ، والملهمُ للقوّة التي تدفع دفّةَ تطوّرها الحضاري ، والملهمُ لألوان معاييرها الأخلاقيّة التي تنبع من قيمها .. وأنّه بمقدار ما تتطابق معاييرها الفكريّة مع منهج الحقّ بمقدار ما يستمرُّ عطاؤها الحضاري للبشريّة جمعاء ..
وقَدَرُ أمّتنا العربيّة والإسلاميّة أن يكونَ معيارُ فكرها القرآنَ الكريم ، ومعيارُ حضارتِها الاقترابَ من العملِ بأحكامه ، ومعيارُ حياتها الإدراكَ السليم لدلالاته .. فكلُّ عربيٍّ ( مسلماً كان أم مسيحيّاً ) مُدانٌ في لغته القوميّة للقرآن الكريم الذي كان الضامنَ الأوّلَ لعدم تغيّر هذه اللغة عبر قرونٍ كثيرة كما حصل مع الكثير من الأمم .. وكلُّ مسلمٍ مُدانٌ في انتمائه العقائدي للقرآن الكريم الذي كان الضامنَ الأوّلَ لتصحيح هذا الانتماء عبر التاريخ ..
.. لذلك يتمُّ فرزُ الأحداثِ التاريخيّة ، والقراءاتِ المختلفة للمنهج ، والرجالِ الحاملين للواء الفكر ، حسب الاقتراب من حقيقة دلالات كتاب الله تعالى ، كما يبيّنها كتابُ الله تعالى ، لا كما يُلبّس على دلالاته من قبل الذين يدعون لأنفسهم ولمذاهبهم تحت اسم الدعوة للإسلام ..
والمشكلة بين حاملي لواء الفكر الإسلامي عبر التاريخ ، تكمن في الاختلاف حول إدراك دلالات القرآن الكريم ، وفي فرض بعض الروايات التاريخيّة المنسوبة إلى الرسول والمخالفة بظاهرها وباطنها لدلالات كتاب الله تعالى ، كرواياتٍ مقدّسةٍ تؤطِّرُ حدودَ إدراك أحكام القرآن الكريم ، بل ويملك بعضها – حسب زعم الكثيرين – صلاحيّة نسخ بعض أحكام كتاب الله تعالى ، وكأنّ كتابَ الله تعالى ناقصٌ لا بدّ من معايرته على التاريخ .. وتكمن أيضاً في التقوقع الفكري داخل أطرٍ مذهبيّة تسجن دلالات كتاب الله تعالى في إدراك بعض الرجال الذين أسّسوا هذه المذاهب ..
وحينما يأتي متدبّرٌ لكتاب الله تعالى ، تقوم الدنيا على رأسه ولا تقعد ، قبل أن يقرأ أحدٌ ما يقول ، وبذلك يتساوى – عند هؤلاء – الخطأُ مع الصحيح ، والجاهلُ مع العالم ، والباطلُ مع الحقّ .. كلُّ ذلك لأنّ المعيار الوحيد للحقِّ والباطل هو المذهب ، والشيخ ، والعصبيّة العمياء ..
أليس في مقتل أبي حنيفة النعمان ، وفي محنة أحمد بن حنبل ، وفي وفي ..... أكبرُ دليلٍ على صحّة ما نقول ؟ .. كلُّ مذهبٍ فكريٍّ يعتقدُ أتباعُه أنّه حصيلةُ إجماع الأمّة ، وبالتالي فالمذاهب الأخرى تحمل أفكاراً خارج إجماع الأمّة ، وبالتالي فهذه المذاهب بعيدة عن الإسلام بمقدار بعدها عن هذا المذهب .. وحينما يخرج متنوّرٌ ويطلب البرهانَ على أيِّ مسألة من المسائل التي يُقال بأنّ الأمّة أجمعت عليها ، يُتّهم بنشر الفتنة بين أفراد الأمّة ، وبالتآمر ، وربّما بالكفر والزندقة ..
معظمهم يقول : أجمعت الأمّة على مسألة الناسخ والمنسوخ ، وحينما يُسأل هؤلاء عن حديثٍ واحدٍ لرسول الله ، يبيّن فيه مسألة النسخ ، ولو بأيِّ درجة من الصحّة كانت ، أو يسألون عن عدد الآيات التي يزعمون أنّ الأمّة أجمعت على نسخها ، لا يجدون جواباً سوى اتّهام السائل بالخروج على إجماع الأمّة ..
وحينما يُسألون عن التوفيق بين مسألة الناسخ والمنسوخ التي هي – حسب ما يصوّرونها – قمّة الاختلاف بين أحكام كتاب الله تعالى ، وبين دلالات الآية الكريمة ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) ( النساء :82 ) .. وحينما يُسألون عن التوفيق بين عرضهم لمسألة الناسخ والمنسوخ التي هي في النهاية عدمُ اتّباعٍ لبعض أحكام كتاب الله تعالى التي تحملها بعض كلماته المرسومة ، وبين دلالات الآية الكريمة التالية التي تؤكّد أنّ كلّ عبارة قرآنيّة لها ساحة اتّباع في كلّ زمانٍ ومكان ( اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ) ( الأعراف :3 ) ، لا يجدون جواباً إلاّ أنّ النسخَ واردٌ بنصٍّ صريح في قوله تعالى ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( البقرة : 106 ) ..
وحينما يُطلبُ منهم العودة إلى دلالات هذه الآية الكريمة ضمن سياق الآية السابقة لها ، حيث يتبيّن أنّ النسخَ المعنيَّ هو نسخ أحكام كتاب الله تعالى لما قبله من الأحكام والشرائع .. ( مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( البقرة : 105 – 106 ) ، وأنّ كلمة آية تعني الحكم ( ولا تعني مجموعة كلمات قرآنيّة ) ، بدليل قوله تعالى ( سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( النور : 1 ) .. حين ذلك لا يجدون جواباً إلاّ بعرض بعض الآيات الكريمة عبر تفسيرٍ تاريخي يجعلُ بينها اختلافاً وتناقضاً بغية البرهنة على مسألة الناسخ والمنسوخ .. وكأنّ الهدف ليس تدبّر دلالات كتاب الله تعالى ، إنّما الجدال لإثبات التفسير التاريخي ، ولإثبات صحّة المذهب الفكري ولو على حساب العقل والمنطق .
.
ومن أكثر المسائل التي يستشهدون بها ، مسألةُ الخمر .. بأنّ الصورة القرآنيّة الكريمة ( يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ) ( البقرة : 219 ) ، منسوخة ، لأنّها تحمل – حسب زعمهم – حُكم إباحة شرب الخمر .. وحينما يُقال لهم : إنّ هذه الآية الكريمة لا تحمل أبداً حكم إباحة شرب الخمر ، بل هي الآية الوحيدة في كتاب الله تعالى التي تحرّم الخمرَ بصيغة التحريم ، وذلك بالتكامل مع دلالات الصورة القرآنيّة الكريمة ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْم ) ( الأعراف : 33 ) ، حيث يبيّن الله تعالى أنَّ الخمرَ فيه إثمُ كبير ، وأنّ الإثم حرام ، وبالتالي فالخمرُ مُحرّمٌ حرمة كبيرة ، وإنّه لا داعي لنسخ هذه الصورة القرآنيّة .. حينما يُقال لهم ذلك ، يعودون إلى أسباب النزول ، وكأنّ القرآن الكريم نصٌّ تاريخيٌّ خاصٌّ بالجيل الأوّل ، ويعودون فيستشهدون بالصورة القرآنيّة ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) (النساء : 43 ) ..
وحينما يُقالُ لهم : إنّ الأولى بإدراك دلالات كلمة ( سُكَارَى ) في هذه الآية الكريمة ، هو العودة إلى هذه الكلمة ومشتقّاتها في كتاب الله تعالى ، فهي تعني في كتاب الله تعالى سدّ منافذ الإدراك بحيث لا يعلم الإنسان ما يقول :
( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ) ( الحجر : 15 ) ..
( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ( الحجر : 72 )
( يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) ( الحج : 2 )
( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) ( ق : 19 )
وممّا يؤكّد ذلك أنّ الصورة القرآنيّة ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) تنطق بهذه الحقيقة ، فحالة السكارى تنتهي حينما يعلم الإنسان ما يقول ، وبالتالي فحالة السكارى المعنيّة هنا هي عدم علم الإنسان لما يقول ، وهذا يكون بأسباب مختلفة كالخوف وغيره ، وبالتالي فالآية لا علاقة لها بالخمر ، لأنّها تبدأ بخطاب المؤمنين في كلِّ زمانٍ ومكان ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) ، والمؤمنون الملتزمون بمنهج الله تعالى – في كلِّ زمانٍ ومكان – لا يشربون الخمر ..
حينما يُقال لهم ذلك لا يجدون ما يقولونه إلاّ أنّ جميع مشتقّات الجذر ( س ، ك ، ر ) ، التي هي – كما رأينا – بمعنى سدّ منافذ الإدراك ، تحمل معنى مجازيّاً ، وإذا قيل لهم لنفرض أنّ الأمر كذلك – وهو ليس كذلك – فلماذا لا يكون السكر المعني بالآية المزعوم نسخها مجازيّاً كغيره ، حين ذلك لا يجدون ما يقولونه سوى تكفير القائل وإلصاق التهم به ..
كلّهم يتحدّثون عن المرحليّة حين عرض مسألة الناسخ والمنسوخ ، بأنّ أحكام القرآن الكريم نزلت لمراحل مختلفة ، وأنّ تحريم الخمر لو نزل دفعةً واحدة لاستثقله الناس .. دون أن يعيروا فكرهم ولو للحظةٍ واحدة أنّ أحكامَ القرآن الكريم صالحةٌ لكلِّ زمانٍ ومكان ، وأنّ المرحليّة ليست في ماهيّةِ النصِّ القرآنيّ وأحكامِهِ كما يُزعم في مسألة الناسخ والمنسوخ ، إنّما هي في استقبال الجيل الأوّل لهذه الأحكام ، وفي عدم نزول القرآن الكريم دفعةً واحدة ..
وكيف تكون بعض أحكام كتاب الله تعالى مرحليّة ، وصالحة لأزمنة وأمكنة محدّدة ، كما يُزعم في مسألة الناسخ والمنسوخ ؟! .. أليس ذلك يؤدّي إلى أنّ القرآنَ الكريمَ مخلوقٌ لأنّ بعضَ أحكامه خضعت للزمان والمكان ؟!!! .. إنّ كون القرآن الكريم ليس مخلوقاً ، يقتضي حتماً استحالة احتوائه على آياتٍ منسوخة ..
يتكلّمون عن الناسخ والمنسوخ في مسألة تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام ، مع العلم أنّه لا يُوجدُ نصٌّ قرآنيٌّ يشير إلى أمر الله تعالى لرسوله بالتوجّه نحو القبلة الأولى ، فرسول الله توجّه هو والمؤمنون نحو بيت المقدس ( 17 ) شهراً قبل الأمر الإلهي بالتوجّه نحو البيت الحرام ، دون نزول نصٍّ قرآنيٍّ خاصٍّ بالتوجّه نحو القبلة الأولى .. والصورة القرآنيّة التالية تؤكّد هذه الحقيقة ( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ) [ البقرة : 143 ] ..
فالله تعالى لم يقل لرسوله ( وما جعلنا لك القبلة التي كنت عليها ) ، ولم يقل ( وما جعلنا القبلة التي أمرناك بها ) .. لقد توجّه الرسول إلى بيت المقدس في البداية ، ولكن ليس من خلال نصٍّ قرآنيٍّ ، والنصّ القرآنيُّ ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه ) [ البقرة : 144 ] ، يؤكّد ذلك ، فقوله تعالى ( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ) يؤكّد أنّ الرسول لم يكن راضياً عن توجّهه في القبلة الأولى ، ولو كان التوجّه إلى القبلة الأولى بأمرٍ من الله تعالى لرضي عنه ، فالرسول لا يمكنه ألاّ يرضى عن أمر الله تعالى ..
.. بعد ذلك عن أيِّ ناسخٍ ومنسوخٍ يتحدّثون ؟!! .. أين هو النصُّ القرآنيُّ المنسوخ في هذه المسألة ؟!! .. ولا أريد الإطالة في الحديث عن أوهام الناسخ والمنسوخ ، فقد بيّنت في النظريّة الثالثة ( الحقّ المطلق ) هذه المسألة من بدايتها إلى نهايتها ، عبر المرور على أهم الآيات الكريمة التي يزعمون نسخها ، وتمّ تأكيد ذلك في النظريّة الخامسة ( إحدى الكُبَر ) عبر معيارٍ رقميٍّ لا يعرف الكذب والخداع ..
الكثيرون يقولون في الآية الكريمة التالية :
( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) ( الأعراف : 143 ) ، بأنّ قوله تعالى ( قَالَ لَنْ تَرَانِي ) هو دليل وقوع الرؤية ، حتى في الحياة الدنيا ، ضاربين بعرض الحائط الحدّ الأدنى من المنطق ، ومن قواعد اللغة .. كلّ ذلك لمخالفة مذاهب فكريّة أخرى ..
ويبرّرون قولهم هذا بأنّ الله تعالى ربط الرؤية بأمرٍ ممكن الوقوع ، وهو استقرار الجبل مكانه ، مع العلم أنّ الله تعالى لم يقل ( لن تراني حتى يستقرَّ الجبل مكانه ) .. وحتى لو فرضنا جدلاً أنّ الله تعالى قال ذلك ، فاستشهادهم غير سليم ، لأنّ الجبل لم يستقر مكانه ( فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً ) .. وقوله تعالى ( وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ) ، هو لتبيين سبب عدم الرؤية ، لا لربط الرؤية باستقرار الجبل أو بعدم استقراره ، والاستدراك الذي تبيّنه كلمة ( وَلَكِنِ ) في هذه الصورة القرآنيّة يؤكّد ذلك ..
ويبرّرون قولهم هذا أيضاً بأنّه ليس من المعقول أن يطلب موسى عليه السلام أمراً غير ممكن ، ويتناسون أنّ نوحاً عليه السلام قد طلب أمراً غير ممكن ، وحذّره الله تعالى من ذلك ، وذلك حين طلب من الله تعالى إنقاذ ابنه الكافر من الغرق ( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) [ هود : 46 ] ..
ويتناسون نهاية الآية الكريمة التي يزعمون أنّها دليلٌ على وقوع الرؤية في الدنيا ، ( وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) ، فقول موسى عليه السلام ( سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) يؤكّد أنّه طلب ما هو غير ممكن ..
.. ثمّ من قال إنّ موسى عليه السلام لم يكن عالماً أنّ رؤية الله تعالى في الحياة الدنيا مستحيلة ، عبر الآليّة العينيّة التي تحكم بصره كبشر في هذه الدنيا ؟!! .. أليس قوله ( رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) يعني اجعلني ولو بأيِّ آليّة أنظر إليك ، وبالتالي لم يكن جاهلاً أنّ الآليّة العينيّة التي تحكمه غير مؤهّلة لرؤية الله تعالى ..
إنّ المشكلة تتجلّى في أبشع صورها حينما يزعمون أنّ قوله تعالى ( قَالَ لَنْ تَرَانِي ) دليلٌ على الرؤية .. فالآية الكريمة التي تبيّن أنّ رؤية الله تعالى – في الدنيا – غير ممكنة ، يستخدمونها كدليلٍ على إمكانيّة الرؤية ووقوعها في الحياة الدنيا !!! .. ضاربين بعرض الحائط أيضاً دلالات الآية الكريمة التالية ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) ( الأنعام : 103 ) ..
نحن لا نتكلّم عن عدم إمكانيّة الرؤية في الآخرة كما ذهبت المعتزلة ، ولا نريد أن ندخل في أعماق هذه المسألة ، إنّما نقول : لا تستخفّوا بعقولنا ، ولا تقفزوا فوق دلالات القرآن الكريم الواضحة وضوح الشمس ، لإثبات العصبيّات الفكريّة التي هدفها الفكريّ الأوّل والأخير الدعوة للمذهب لا لله تعالى ، ولا لمنهجه الذي أنزله للبشريّة جمعاء ، لا لهذا المذهب أو ذاك ..
ولا نريد الإطالة في هذه المسألة ، فنحن نبيّن شواهد على بعض المذاهب التفسيريّة التي تقتل الفكرَ ، عبر فرض بعض القراءات التاريخيّة كمنهجٍ تفسيريٍّ يريدونه معياراً حتى لكتاب الله تعالى ..
والطامّة الكبرى تكمن في تكفير من لا ينصاع بفكره وعقله لهذه العصبيّات الفكريّة الغارقة في مستنقع الفعل التاريخي وردّ الفعل ، فلأنّ الطرف الآخر ذهب باتّجاهٍ فكريٍّ محدّدٍ ، لا بدّ من الذهاب بالاتّجاه المعاكس ، حتى لو كان ذلك بالقفز فوق بعض دلالات كتاب الله تعالى الواضحة وضوح الشمس ..
هؤلاء التائهون – فكريّاً – في أنفاق التاريخ ، والذين يريدون تقديم بعض القراءات التاريخيّة كنصٍّ مقدّسٍ تُعاير عليه حتى دلالات كتاب الله تعالى ، لا يقبلون أيَّ آليّة للحوار البنّاء ، لأنَّ مبدأ الحوار والتدبّر يتعارض مع حقيقة منهجهم في تقديم التاريخ كبديلٍ عن منهج الله تعالى ..
هذا القانون التاريخي لم يتغيّر منذ العصور الأولى حتى الآن .. فهل اقتتال المسلمين ابتداءً من معركة الجمل وصفّين والحرّة و ....... حتى اقتتال الأخوة في الآن في أنحاءِ العالَم الإسلامي ، كان نتيجة اختلافٍ على مفهوم الشهادة ، أو على عدد الصلوات اليوميّة ، أو لاختلافٍ في فريضة الزكاة ، أو الحجّ ، أو الصيام ؟!! ..
ما داموا جميعاً متّفقين على كلّ ذلك ، ومجمعين على القرآن الكريم ، وعلى الرسالة التي أنزلت على محمّد ، وما داموا جميعاً يقرؤون قول الله تعالى ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ) ( النساء : 93 ) ، ويقرؤون قوله تعالى ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ ) ( البقرة : 256 ) ، فلماذا قُطعت مئاتُ الآلاف من رؤوس المسلمين تحت اسم حماية الإسلام والذود عنه ؟!! ..
نحن لا نقول ذلك من أجل نبش فتن التاريخ كما يزعم التائهون ، إنّما نقول ذلك لأنّ هذا القانون التاريخي الذي صبغ الكثير من عصورنا عبر التاريخ ، ما زال فاعلاً وبأبشع صوره ، ولأنّ السقفَ الفكريَّ لهذه الأمّة بات محكوماً لعتبة العصبيّات التي نتجت عن تلك الفتن ..
ونحن بقولنا هذا لا ننكر – كما يفهم الجاهلون – فضل الأوائل الذين جعلوا أحكام هذا الدين وشعائره وسنّةَ الرسول واقعاً متحقّقاً عبر التاريخ ، والذين كانوا السبب الأوّل في وصول منهج الله تعالى إلينا .. إنّما ننكر مصادرة دلالات كتاب الله تعالى التي يحملها لكلّ جيل ، تحت أيِّ ادّعاءٍ كان ، وننكر القول بجفافَ دلالات كتاب الله تعالى وتعليبها داخل حجرات التاريخ ، لأنّ الله تعالى يقول : ( قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ) ( الكهف : 109 ) ..
من هنا نرى كيف يذهب بعضهم إلى قتل فكر الأمّة عن طريق فرض فكرهم المتقوقع في سجن عصبيّتهم التاريخيّة التي تلبس ثوب المذهبيّة .. فالعيب ليس في التمذهب الفكريّ بمقدار ما هو في فرض المذهب الفكري على الآخرين ، وفي تقديمه كقراءة أخيرة لمنهج الله تعالى ..
وهذا لا يعني التسليم لأيِّ فكرٍ جديد يقفز فوق الموروث ، ولا يعني إنكار الموروث الفكري ، ولا يعني قبول الموروث الفكري على ما هو عليه لأنّه موروثٌ فكريّ ، إنّما يعني عدم قبول الفكر دون تقديم الحجّة والبرهان من كتاب الله تعالى ، كتطبيقٍ لقوله تعالى ( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) ( البقرة : 111 ) ، ويعني المعايرة المستمرّة لأيِّ فكرٍ على منهج الله تعالى ، حتى يستمرّ التطوّر الفكريّ لهذه الأمّة مع الزمن للاقتراب أكثر من مراد الله تعالى في كتابه الكريم ، كما يريد الله تعالى .. ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( فصلت : 53 ) ..
.. لا بدّ أن يُعيد كلُّ مذهبٍ فكريٍّ النظر في تقييمه للمذاهب الفكريّة الأخرى ، وأن يسعى إلى تطوير فكر الأمّة للاقتراب من مراد الله تعالى في منهجه ، حتى نكون أمّةً حيّةً تنتجُ الفكر ولا تخطفه وتغرقه في مستنقعات عصبيّات مذاهبها ، وحتى تسري الحياة في جسد هذه الأمّة ، وحتى لا نكونَ السببَ والمعاول التي تهدم بنيانها ، وحتى لا نكون من الذين يعنيهم قول الله تعالى :
( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) ( الأنعام : 159 )
( فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) ( المؤمنون : 53 ) ..
المهندس عدنان الرفـاعي
كاتب ومــفكِّـر إســلامي
سـوريـة – درعــا – تلـشـهاب
هاتف جـوّال : 252300 955 00963 www.thekr.net
عدل سابقا من قبل شبل العقيدة في الإثنين 12 ديسمبر 2011, 10:41 am عدل 1 مرات